كثرت التكهنات حول خطة ايرانية مزعومة تقضي بتولي المرجعية الدينية الشيعية في العراق رجل دين مقرب من طهران. وبغض النظر عما إذا كان أصحاب نظرية المؤامرة هذه على حق أم لا، يبدو أن الخطة التي يتحدثون عنها خطة غير متماسكة، فهي تتناقض مع التقاليد الدينية الراسخة في العراق منذ قرون.
على مدى الأشهر التسعة الماضية، روجت الكثير من وسائل الإعلام تكهنات حول مؤامرة إيرانية مزعومة تقضي بإيصال واحد من كبار رجال الدين في العراق إلى مركز ديني مرموق. وتقضي هذه الخطة، بإرسال إيران رجل دين بارز إلى النجف، جنوب بغداد، باعتبارها واحدة من المراكز الاسلامية الشيعية المهمة، للسيطرة على المؤسسة الدينية فيها – ومن ثم السيطرة على مستقبل الإسلام الشيعي.
تبدو الخطة التي يتم تداولها بسيطة للغاية. فآية الله علي السيستاني، زعيم المرجعية الدينية الشيعية في العراق، سيكمل الثالثة والثمانين من عمره في شهر آب (أغسطس) من هذا العام، ويعتقد الجميع أنه يقترب من نهاية ولايته كزعيم روحي للملايين من المسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم بشكل عام، والمسلمين الشيعة في العراق بشكل خاص.
فعلى الرغم من أن حالته الصحية جيدة، إلا أن الإشاعات التي يتم تداولها تقول بأن وضعه الصحي سيء وأن إيران تنتظر الفرصة لتنقض على المرجعية الدينية الشيعية بعد وفاته.
وتركز التكهنات على اسم آية الله محمود شهرودي المقيم في ايران كبديل محتمل لآية الله علي السيستاني. وقد ازدادت الشائعات حول عودته الوشيكة الى النجف، مقر المرجعية الدينية في العراق عندما أنشأ الشهرودي مكتبا له في النجف في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي. كما بدأ بتوزيع رواتب لطلاب الدين - وهي خطوة أولى ضرورية لرجل دين للإعلان عن وجوده كمرجعية دينية. بعد شهر من فتح مكتبه، أعلن ممثله في العراق، محمود البغدادي بأن شهرودي سيعود الى العراق "قريبا".
من خلال ارسالها محمود شهرودي، رجل الدين العراقي المولد، والذي قام بأدوار سياسية بارزة في إيران على مدى سنوات عدة، الى النجف، تبدو إيران وكأنها راغبة في أن يكون واحد من رجالاتها خليفة للسيستاني وبالتالي أن يستلم زمام القيادة الشيعية في العراق.
ويبدو للوهلة الأولى أن اختيار شهرودي هو أمر طبيعي، فهو آية الله العظمى – أي أنه رجل دين ذو مرتبة دينية شيعية عالية جدا، وهو أحد المقربين جدا من آية الله العظمى علي خامنئي – أحد أبرز القادة الدينيين في ايران. فلقد تولى رئاسة الهيئة القضائية الايرانية لمدة عشر سنوات وكان عضوا في مجلس صيانة الدستور في إيران، وهي الهيئة التي تدقق في جميع التشريعات البرلمانية لضمان انسجامها مع الدستور الايراني والشريعة الإسلامية.
وهو أيضا رجل له احترامه وله علاقاته كما أن له نفوذه في العراق، فقد ولد في النجف ثم فر إلى المنفى في إيران هربا من نظام صدام حسين. ولدى الشهرودي علاقات وثيقة مع رجال السياسة الذين يحكمون العراق الآن في بغداد. كما ترأس لفترة وجيزة "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" والذي يعرف الآن باسم "المجلس الإسلامي الأعلى في العراق" (عندما كان حزبت معارضا للبعث العراقي).
موقعه الفريد من نوعه بين الساسة الشيعة العراقيين والإيرانيين، جعل منه وسيطا هاما لا غنى عنه خلال محادثات تشكيل الحكومة بعيد الانتخابات العراقية في 2010. وكانت نتائج الانتخابات غير حاسمة مما استدعى استمرار المفاوضات لتشكيل الحكومة حوالي تسعة أشهر. وأدت المفاوضات في النهاية إلى توحيد الكتلة الحاكمة حاليا ذات الأغلبية الشيعية في البرلمان العراقي والتي يرأسها رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي.
وهناك حادث آخر وقع في صيف عام 2010 وأدى إلى تعزيز مكانة الشهرودي في السياسة العراقية ألا وهو وفاة آية الله العظمى محمد حسين فضل الله عن عمر ناهز 74 عاما.
وكان فضل الله، المولود أيضا في النجف، من قادة رجال الدين الشيعة اللبنانيين وأحد مؤسسي حزب "الدعوة" الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء نوري المالكي. وبصفته هذه، كان فضل الله المرشد الروحي لهذا الحزب. وعلى الرغم من أن حزب "الدعوة" كان قد أصر على أنه لم ولن يعين أي شخص بشكل رسمي ليحل محل فضل الله، اعتبر بعض أعضاء الحزب، ومنذ ذلك الحين، الشهرودي زعيما دينيا لهم.
بعد وفاة فضل الله، لم يكن الشهرودي الرجل الذي يمكن اللجوء إليه للحفاظ على تماسك الكتلة الشيعية في العراق فحسب بل أصبح أيضا الزعيم الروحي لبعض السياسيين المعنيين. نتيجة لذلك، فإن عودته إلى العراق يمكن أن يكون لها تأثير كبير داخل حزب "الدعوة" بغض النظر عن كونه الزعيم الروحي الرسمي للحزب أم لا.
إذا ما وضعنا علاقاته جانبا، فمن المهم أن نأخذ في الاعتبار أن التأثير على الأحزاب السياسية الشيعية في العراق، والتأثير في النظام الديني الإيراني، لا يترجم تأثيرا في المؤسسة الدينية في النجف لأن هذه المؤسسة تفخر باستقلالها عن مصادر التأثير السياسي والمالي وباعتمادها بدلا من ذلك على التدفق المستمر للدخل من أتباعها ومن غيرها من مصادر الوقف المالية.
ويعتبر الشهرودي رجل دين له مكانته ولكن موقعه السياسي في ايران يعيق آفاق تقدمه في العراق بدلا من أن يساعد عليه. فالحقيقة هي أن أي منصب سياسي يحتله رجل دين له آثار وتداعيات مباشرة وسلبية على مؤهلاته الدينية في النجف. فهناك في إيران علاقة تكافلية بين الدين والسياسة أما في العراق فإن الدين والسياسة لا يسيران جنبا إلى جنب.
لقد مارست المدارس الشيعية في النجف الأشرف، التي يقف على زعامتها السيستاني، ما يعرف بتقاليد التصوف منذ قرون، أي سياسة عدم تدخل القيادات الدينية في الشؤون السياسية.فرجال الدين في العراق يشاركون في العملية السياسية، وآية الله العظمى يتدخل في الشؤون السياسية، ولكن خلافا لما يحدث في إيران، فإن تدخلاتهم هذه تكون فقط في مناسبات نادرة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب النظر في الآلية التي يتممن خلالها اختيار خلف يقود الحركة الدينية. علي الدباغ، المتحدث باسم الحكومة العراقية، تحدث عن ذلك بشكل واضح حين قال: "ستكون هناك فترة انتقالية لبضع سنوات بعد وفاة رجل دين بارز ولكن هناك مجموعة آليات (لاختيار من يخلفه) وكل من يحاول سد هذه الثغرة باستخدام قوة مالية وسياسية من خارج العراق ستبوء محاولاته بالفشل".
وكان الدباغ يشير الى عملية تدريجية في الاختيار يشارك فيها آخرون من كبار رجال الدين في النجف والذي سيكون لهم دور في اقناع الجماهير بواحد أو بعدد من رجال الدين المؤهلين ليحتلوا في نهاية المطاف منصب السيستاني. لن يكون الأمر واضحا في البداية وقد يستغرق ظهور رجل دين قوي وقيادي بديل للسيستاني عدة سنوات.
وبما أن الاستقلال السياسي والمالي أمر بالغ الأهمية، يبدو من غير المحتمل أن يلجأ كبار رجال الدين في النجف لإقناع الجماهير باتباع شخص مثل الشهرودي، الذي له دور سياسي علني في ايران.غير أن احتمال أن يحل الشهرودي مكان السيستاني لا يعتمد فقط على الخلافات اللاهوتية بين رجال الدين في العراق وايران بل يتوقف أيضا على موقف الجماهير. فمن خلال اتباع السيستاني، يعبر الشيعة عن ترددهم في ربط هويتهم الدينية والروحية بالنظام السياسي الحديث
في ذروة قوته، لم يتمكن آية الله الخميني في إيران أن يغير من عقول المسلمين الشيعة العاديين الذين واصلوا اتباع رجال الدين في النجف. حدث ذلك على الرغم من أن الثورة الاسلامية في ايران كان لها تأثير كبير على الحركات الإسلامية الناشطة في العراق. اليوم، من الطبيعي بالنسبة للمسلمين الشيعة أن ينحازوا سياسيا لإيران، وأن يكونوا في الوقت نفسه من أتباع أحد رجال الدين التقليديين في النجف ليكون مرشدهم الروحي.
علاوة على ذلك، فإن نفوذ رجال الدين من ايران الى العراق لا يشكل ظاهرة في اتجاه واحد. فرجال الدين المسلمين الشيعة ذوي المراكز العالية في العراق يديرون مكاتب لها نفوذ داخل إيران ويدفعون رواتب للطلاب ويديرون مدارس دينية لتعليم رجال الدين الذين لا يتفقون مع النموذج الإيراني.
وهناك بعض العناصر داخل النظام الإيراني ممن يبحثون عن سبل لتوسيع نطاق نفوذهم في العراق. وقد يكون لديهم خطط لارسال الشهرودي الى النجف. وقد يرحب حزب "الدعوة" أيضا ترحيبا حارا بقدوم الشهرودي نظرا لعلاقة هذا الحزب المتوترة مع رجال الدين في النجف وتقاربه السياسي مع طهران.
ومع ذلك، ونظرا لتقاليد النجف التاريخية والقوية بإبقاء السياسة بعيدا عن الدين، فمن غير المرجح أن تنجح هذه الخطة. هذا التقليد الراسخ والقوي - والذي تطور خلال أكثر من ألف سنة ويعود تاريخه الى وقت تأسيس الحوزة العلمية، مركز الدراسات اللاهوتية الإسلامية الشيعية في مدينة النجف في القرن الحادي عشر الميلادي - من غير المرجح أن يتغير تغيرا كبيرا فقط بسبب بعض المناورات السياسية عبر الحدود.
[نشر هذا المقال بالإتفاق مع موقع "نقاش".]